حَامِلَةُ الأَمَانَةِ

رجاء محمّد بيطار/ لبنان
عدد المشاهدات : 280

المرتبة الثالثة: حَامِلَةُ الأَمَانَةِ أمّاه... كلّما هبّ نسيم الصحراء المحمّل بعبير دمائهم خلطتُ زفرتي به، وأطلقتُها في ركابه والهةً، وكلّما جنّ ليلها البهيم الخالي من سنائهم، أغرقتُ نظرتي في عبابه، وأسررتُ إليه، وأصغيتُ أنتظر الردّ.. كلّما خطوتُ خطوةً فوق رملها الملتهب، وأحطتُ بعباءتكِ وقلبي اليتيم الثاكل يتم الأطفال وثكل النساء، تطاير رذاذه ليصيب عينيّ، فأغمضتهما عن ذلك المنظر، وانفتحت في أعماق وجداني كوّةٌ نورانيّة، واستلّتني الذكرى من واقع السبي المرير إلى تلك الأيام الحلوة التي لا تزال عذوبة مذاقها عالقةً بأطراف الحلم.. أمّاه... كنتِ وما برحتِ هناك، في عمق سويدائي التي ضمّتكِ مذ رحلتِ، تغذّينني نبضًا وروحًا وحياةً، وتشعشع نظرتكِ الملكوتية فيّ، وتهمس نبرتكِ الملائكية في أذنيّ، فأنا الطفلة التي سمعت ووعت ورأت، فلم تنسَ قطّ: - بنيّتي، هذه أمانتي! ومع النبرة غاصت القبلة في نحري، وتغلغلت الشمّة الصادحة أمومةً وحنانًا ونقاءً في صدري، فأغدقتِ عليّ أنفاسي منذ ذلك اليوم، ولا تزالين.. أمّاه... يا كلّ الحبّ المنتشر في أروقة الكون، ويا صمت الحقيقة حين تبهر بشمسها الحياة كلّ صباح، لقد أطلق الفجر أمنيّاته، ورسمتُ بطفولتي اليتيمة كلّ لوحاته، وغدوتُ بكِ أمًّا لكلّ هذا الوجد، وحملتُ حقّكِ المغصوب وعدًا لا يشبهه وعد، وعاهدتُ دفء خدّكِ ويدكِ مثلما عاهدتُ برودة لحدكِ، بأنّي سأحمل أمانتكِ غضّةً طريّةً مثلما حمّلتِنيها، وسأفي بذلك العهد.. ومضت الأيام... كلّ دروب الحياة تعرّجت بي، فلم أتعرّج، وكلّ الأمّهات كان لي أبي، فلم يُنقص من اشتياقي لكِ لحظة، بل زادني لوعةً أن أرى عينيه الغارقتين في دمع الرجاء وزفرة الحنين، وعلمتُ أنّه من حبّكِ الدفين يتنفّس ويفيض عليّ كوثره، فطفقتُ أردّ عليه ببعض أمانتكِ الزاخرة! أخواي، سيّدا شباب أهل الجنّة، هما فردوسي في يومي وأمسي وغدي، يتألّقان في فضائي شمسًا وقمرًا، لا أدري بأيّهما أنا أشدّ تعلّقًا وانبهارًا، فأيامي بهما ومعهما تضيء ليلًا ونهارًا، وهما للمدينة سماؤها وللأرض ماؤها، ولكنّ البشر يظمؤون فلا يهتدون إلى معينهما، إلّا مَن عرف حقّكِ وحقّهما، وإنّما المؤمنون المهتدون قلّة.. أمّاه... بالأمس ودّعتُ عهد الصبا واستقبلتُ شبابي في بيت ابن عمّي الطيّار، عبد الله بحر الجود، أنتِ تعرفينه، وتعرفين أمّه أسماء، صفيّتكِ وآخر الناس عهدًا بكِ، وهو بي حفيٌّ وعليَّ مؤتمن، وأنا له الزوجة والسكن، ولكن الأمانة لم تفتأ تطوّق عنقي وتملؤني عزّةً وفخرًا، وقد قصصتُ عليه حكايتها فرضي عن طيب خاطر أن أكون لأخويّ ملازمةً لا أبرحهما مهما حصل.. وبالأمس اختار الله لي أن أغدو أمًّا، فولدتُ عونًا، وقد أردتُه أن يكون عونًا لأوليائه، وولدتُ جعفرًا، وقد أردته أن يغدو طيّارًا كجدّه في سمائه، ورزقني الله أخًا جديدًا، غدوتُ له مع أمّه أمًّا، وتوّجتُ به أحلامي في دنيا الأمومة الطاهرة، ولقد دعاه أبي عبّاسًا، ليذود عن حياض الحقّ يوم يقلّ الناصر ويعزّ الكفيل، فيحلّق في سماء الفجر بأجنحة الأصيل.. وبالأمس أيضًا تجدّد مصابي بكِ.. ولقد علمتُ أنّكِ لأبي ملازمة، وفي قلبه قائمة، وفي روحه كنتِ ولا تزالين وستبقين أبدًا (فاطمة)، لكن، ها هو قد سقط لوجهه في محرابه، تمامًا مثلما سقطتِ بالأمس خلف بابكِ، وهتف ليعلن امتداد جوابكِ: - فزتُ وربّ الكعبة! أمّاه... لقد فاز أبي بجنّته، وتركنا خلفه نتجرّع مرارة الدنيا من غصّتكِ وغصّته، فوا شوقاه، وواحسرتاه على فراقٍ لا ينهيه إلّا الموت الذي غدونا نهواه.. رويدكِ يا أمُّ، فالصورة لم تكتمل بعدُ، والكساء الذي نسجته يمناكِ بنبض ضلوعكِ لم تنفرط خيوطه، وما كان لها أن تفعل، ومع أنّ ارتقاء الحبيب الأعظم فلّ لحمته، ولحاقكِ به سريعًا أبهت ألوانه، لكن هامة أبي صبغته بالنجيع، فعاد زاهيًا يضجّ بالربيع، واستشعرتُ حرارة الأمانة في عينيّ وهما تذرفان.. وعلمتُ أنّ زمن الفداء مستمرّ، فها هو بكركِ الأثير يجبر كسر ضلعكِ ببلسم كبده، ويمسح على وجنة الكساء بماء الحياة ويرحل، ومرةً أخرى أذرفُ أمانتكِ دمعًا فوق جرحه الخفيّ.. لم يبقَ لي يا أمّاه سواه، ضياء العين ومهجة الروح وعبير الآه، وهو الإمام ابن الإمام، أخو الإمام، أبو الأئمّة (عليهم السلام). وانطلقنا... تسبيحة الحقّ تهلّل في وجه الباطل فلا تخشى الفوت، وتصدح فوق كلّ ضجيج الدنيا لتعلن حقيقة الصوت، نحدو للحياة ويحدو لنا الموت... كان ملتقى الأسنّة في انتظارنا، هناك حيث يختلط السراب بالماء، وتجلجل الأهواء، ويقف المتّقون على شفير الهاوية فلا يقعون، بل يتمسّكون بأغصان طوبى، ويرتقون.. وعلى ذلك التلّ وقفتُ.. كربلاء يا أمّاه كانت صديقة المدى، تعزف بالسيوف والرماح ألحان الردى، وتزفّ قوافل الشهداء زمرًا، وأراقب من فوق التلّ وأترقّب اللحظة الأخيرة.. لقد استدعاني حسينكِ يا أمّاه، ومسح على قلبي بطيب نجواه، وهمس في أذني بما يشبه صوتكِ المشبوب في كياني قائلًا: - اللهمّ اربط على قلبها.. وأضاف معلنًا حكمه الربّاني: - احفظي لي النساء والأطفال، إنّ الله قد شاء أن يراني قتيلًا، وشاء أن يراكنّ سبايا.. أمّاه... إنّ أمانتكِ المرصودة لا تزال ترصدني، ولقد مهرتها شهادةُ الأمّ والأب والأخ والولد، وها هي الآن تطالبني بالمزيد، ولا مفرّ من الأداء في عرصة البلاء، وها قد تهيّأتُ، فكوني معي وفوقي.. هو ذا يقف هناك، قد أنهك الظمأ بنيانه المتين، وكان حريًّا بفقد الأحبّة أن يضعضعه، لكنّه كان يزداد ألَقًا وتوهّجًا كالشمس، لا تزيدها كثرة العطاء إلّا جودًا وكرمًا.. أقبلتُ نحوه، كفّا كفيلي تلوّحان لي من بعيد، في أعلى راية الحمد المنتصبة عند أفق المجد، وعيناكِ يا أمّاه تبرقان كمشكاة في يوم عاصف، ووجه أبي المخضّب من دم هامته يتضرّج أكثر، ويتقاطر شوقًا كحوض الكوثر، وقامة أخي الحسن تنتصب في وجه الظلمات تصدّ عنّا وجهها الأغبر.. ناديتُه، فتوقّف والتفتْ.. خطواته المتّجهة نحو كبد المنيّة وقلب الانتصار كانت ثابتة، ونظراته ثابتة، ونبراته ثابتة: - أخيّة زينب، ما تريدين؟! - انتظرني هنيهة... بحّة صوتي كانت أكثر ارتفاعًا من صوتي نفسه، ولعلّه قرأ في ثناياها ما أريد قبل أن يسأل.. ولمّا وصلتُ إليه، وقفتُ أمامه أُترعُ ناظريّ من وجوده وأتزوّد.. أمّاه... لقد تلفّعتُ بعباءتكِ، وعلى ذلك النحر الموسوم بقبلات الرسول تركتُ قبلتكِ، وفي ذلك الصدر المضمّخ بعطر كسائكِ تركتُ شمّتكِ، وخاطبتُه بنبرةٍ هالني أنّها كانت نبرتكِ: - لقد أُدِّيَت الأمانة! وأيقنتُ لحظتئذٍ أنّكِ قد كنتِ هناك، وأنّكِ أنتِ مَن أعلنتِ ذاك.. ولمّا مضى ليقدّم قربانه، ويغذّي بشريانه كوثر الأمانة، ويرفع رأسه عاليًا، عاليًا نحو السماء، كانت وصيّتكِ يا سيّدة الكون تجلجل في حنايا ضلوعي، وها هي تستمرّ نضّاحةً في سجودي وركوعي، وفي كلّ كلمة أطلقتُها في وجه جبابرة الأرض، وعلّمتها لنساء المؤمنين ورجالهم، وذدتُ بها عن إمامي المبين ولا أزال.. أمّاه... قَرّي عينًا، فأنّي لأستشعر ضلعكِ الآن قليلًا، لكنّني لا ولم أرَ إلّا جميلًا، فلقد رضيتِ ورضي الله، وانتصر الحقّ على كلّ ما عداه، وإنّي ما برحتُ أحمل أمانتكِ كاملة، أؤدّيها مع كلّ فرض ونافلة، وكلمة حرّة فاصلة، فالحمد لله الذي شرّفني بهذا العطاء، وحمّلني أمانة أمّي الزهراء (عليها السلام).