وَالصِّدْقُ يَرثِيهِ
أقف على شفير الزمن الخؤون، أتلفّع بوشاحي النوراني، وأرمق الماضي بنسيم والهٍ، وأمسح على فؤادي التائه. أتلمّس بين (صادي) و(قافي) (دالًا) يدلّ على حقٍّ مكنون، فتتراءى لي قافلة الحنين، وأناجي وأتهجّد: - "...صالحٌ بعد صالح، وصادقٌ بعد صادق..."(1). ويلوح لي في أفق المحبّة طيف، وتطلّ عليّ من ذرّات ذاك الطين اللازب كلمات تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه! آدم، يا أول مخلوقٍ حمّله الله أمانة العشق، أرصدكَ بكياني الشفّاف عساي أبلغ منتهاكَ، فأكاد ألمح في يديكَ الممدودتين نبض تلك الأفلاك. أعلم أنّكَ توسّلتَ بهم، وأنّه تاب عليكَ بفضلهم، فأغوص بـ(صادي) في حناياكَ، وألفّ بـ(قافي) كيانكَ، وأسجد بـ(دالي) في محراب خفقاتكَ الحرّى لتنطلق بي ثناياكَ. هم بَنوكَ، ورثة هذه الأرض، فهلمّ معي يا بن التراب المعجون بماء الحياة؛ لنقتفي أثري في عطاياكَ. لن نطيل التحديق في هذه اللجج الغامرة، بل سنقفز فوق أمواج السنين والقرون الغابرة، وسنتسلّق معًا تلك القمّة السامقة، وهناك، مع ذوبان الثلج النقيّ المنسكب تحت شعاع الشمس البهيّ، سأخبرك قصّتي، فانصت مليًّا، فبين شفتي ذاك (الصادق الأمين) المتبتّل في جبل النور، تألّقتُ نورًا، وما برحتُ أتماهى مع صوته المخترق سجوف الزمن، فلا أعلم أمنه كنتُ أم كان منّي!! ومع فؤاده الخفّاق برؤية الحقّ، تحرّكت في كياني نأمة الحياة، فاستشعرتُ وجودي، ورحتُ أفوح يمينًا وشمالًا، وأضجّ شكرًا للباري تعالى بأن خلقني عنده ومعه، وأن جعل كياني جزءًا من كيانه المقدّس، فرفعني حيث رفعه، وأطلقني في قلب مَن صدّقه واتّبعه وفي لسانه، وغدوتُ له لقبًا يُعرف به. ربّاه، يا لجمالي المبثوث في خَلقه وخُلقه! ما أروعه! إيهٍ آدم، هو فَخرُ بنيكَ، وأقدس سرّ استودعه الله فيكَ، فلو شكرتَ وحمدتَ الله زِنة عرشه ومِداد كلماته لما وفيتَ حقّ الشكر عليكَ. ولكن مهلًا، أأزيدكَ قولًا؟ هو نسله الطاهر، وأكرِمْ به نسلًا! أتألّق في حناياهم مثلما في طينتهم الأولى، ولا أدري أبي يفخرون فأفتخر؟ أم بهم أتماهى فأغدو ما أنا عليه؟ بل أسمى وأعلى! بضعته الطاهرة الميمونة، ووصيّه المنتجب، وليد الكعبة المشرّفة المصونة، اقترنا ذات وحيٍ مبارك، فكان منهما أسباطه، وكنتُ من تلك الثلّة المصطفاة، الكلمة المثلى. كانوا ولا يزالون يرتقون في سماء الحقّ، فيتماهى بهم الخَلق، ويرتّل الروح الأمين في أذن حبيبه: - (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنعام: 115)، لكن أتدري يا أباهم مع أنّ منبع فخري هو هداهم، وأصلي يقترن بهواهم، فإنّ لي في أحدهم مآرب أخرى، فلقد أعزّني بما أعتزّ به، وصرتُ له اسمًا مثلما كنتُ لجدّه، فتخلّد ذكري في تلك الفئة الناجية التي اهتدت بهديه، وارتقت في عهده. إنّه جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام)، شبيه المصطفى وسادس الأئمة من بنيه، وصنوه في كنيته ويوم ولادته، ولقد بُعث الدين غضًّا على يديه، فوضع أسس العلم وشدّ أواصر الفهم، لكن كادت له مثلما كادت لأسلافه يد الظلم، واغتاله مثلما اغتال آباءه حدّ السمّ، وها أنا ذا قد وقفتُ على شفير هذا الزمان أرثي لنفسي وأرثيه، وأنتظر السادس من بنيه، وأمنّي النفس بالصادق الأخير، عساه يرفع عنّي بعض ما أعانيه. أتدري يا أبا البشر، أنا الذي لولاي ما عُرِف الله، إذ قد اتّسم بي رسله وإلّا لما صدّقهم بشر، ولولاي لاندثر دين الله، فأنا (الصدق) الذي قال الله تعالى فيه: (وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا) (النساء: 122).