فِكرَةٌ استَوقَفَتْنِي
غريبة أنا! فكلّ ما حولي يدعو إلى التشاؤم، ومَن يختبر الحياة وضغوطاتها يدرك ما أقول، ولعلّ ذلك انعكس أيضًا في نفوس أفراد المجتمع، فنادرًا ما تصادف مَن يشاطركَ التفكير الإيجابي والنظر إلى النصف المليء من الكأس. كنتُ أستقلّ السيارة لأعود قريبة لي في المستشفى، والمناسبة وحدها كفيلة بحقن بعض التشاؤم في عروق أفكاري. وفي أثناء المسير، كانت نظراتي تتنقّل بلا مبالاة بين المشاهد المهرولة، نظرات فارغة، لا شيء يدعو إلى التفكّر، أو التأمّل، كلّها مشاهد مألوفة، فأيّ منها لم يطرق باب انتباهي سوى مشهد واحد: سور المستشفى، حيث لاحظتُ تراكم أوراق النباتات والأزهار التي استسلمت للموت، وآثرت التحرّر من قيود رحلة الحياة، فارتمت على رصيف المجهول. إلى هنا لا شيء يدعو للغرابة، فمناسبة الزيارة ومكانها يتآمران عليّ لرسم لوحة تثير الامتعاض، أو ربّما بعض التشاؤم والانزعاج، مثلما أنّ مشهد الشارع النظيف الذي عكّر نقاءه تراكم الأوراق والأزهار الميّتة بشكل سافر، لا بدّ من أن يعبّد الطريق أمام الأفكار الدميمة؛ لتسلّق جدار انتباهي والوصول إلى حبل الغنيمة، لكن فكرةٌ ما قطعت حبل الفوز، وحطّمت ثقل اللوحة وجهامتها أمامي، فبدأتُ أرسم لوحتي الخاصّة بريشة الاستبشار والارتياح: هذه الأوراق، وبقايا النباتات على الرصيف لا توحي بالموت، بل هي دليل على الحياة والتجدّد، إذ تتدلّى فوق هذا الرصيف على امتداد سياج المستشفى شجيرات ازدانت بأزهى الألوان؛ لتعطي الحياة أوسمة التفاؤل، بينما في الجهة الأخرى من الرصيف، حيث الإسمنت يعكس حرارة الشمس، ويتباهى بلونه الحالك الذي لم تدنّسه بقايا الحياة، تدلّت فوقه شرفات الأبنية، شرفات جافّة، يابسة، قاحلة، لا حياة فيها ولا تجدّد، فصارت الأوراق اليابسة ريشة لوّنت لوحتي بألوان الحياة. وفكّرتُ في سرّي: ليس بالضرورة أن يكون الشارع النظيف دليلًا على الحياة، فالأشياء الميّتة لا تتجدّد، ولا ترمي بأثقالها لتنطلق خفيفة في أثير الحياة! وتساءلتُ: هل الإيجابية التي أُقارب فيها الأمور سذاجة أم تعقّل؟ هل هي قطعة منّي أم أنّني اقتطعتُها من تجارب الأيام، وتسلّحت بها في مواجهة نوائبها وملمّاتها؟