رياض الزهراء العدد 183 أرواح عاشقة
البَراءَةُ المَذبُوحَةُ
مشية يشوبها الاستغراب والحيرة، ممزوجة بالخوف وتمكّن التعب من جسديهما النحيل، وتفكير مستمرّ بما ينتظرهما، ومَن يلاحقهما من جيوش الطاغية، بخاصّة أنّ جلاوزة عمر بن سعد يقتصّون أثرهما. بنظرات مليئة بالعطف والحبّ ينظران إلى بعضهما، وكلّ منهما يحاول أن يحافظ على أخيه كمقلتيه، ويتهامسان: تُرى أين نحن؟ وما هذا المكان؟ كان علينا البقاء مع أمّنا وموكب السبايا. لكن ما عساهما أن يفعلا وقد أفزعتهما خيول الأعداء المتراكضة نحوهما، وأذهلتهما روائح دخان الخيمات المحترقة، وصرخات النساء والأطفال المستغيثة، فلم يشعرا بأقدامهما إلّا وقد ساقتهما إلى هذا المكان. وبلا شكّ قد سيطرت عليهما لوهلة مشاعر الرأفة على أمّهما، تُرى كيف حالها بعد فقدانهما، وفقدان والدهما؟ كأنّها تقول: ما أقسى هذه الدنيا، فقد أعطتني أغلى ما يكون، وها هي اليوم تسلبني أحبّتي، فقد اقترنتُ بمسلم بن عقيل الذي كان اسمًا على مسمّى، رسول الحسين (عليه السلام) الذي اتّخذه سفيرًا لتلك النهضة الخالدة، وكلّ ما يتّصف به يشير إلى الإسلام والسلام، ومن مِنن الله عليّ أن رزقني نَسمتينِ ليكونا نسختينِ مصغّرتينِ من أبيهما، فمسلم واحد قد ملأ حياتي محبّةً وسعادةً، فكيف سيكون حالي بوجود ثلاثة؟ لقد عِشتُ في كنف المغوار مسلم سنوات عديدة، وقد كانت ملامحه وأفعاله تبعث على الطمأنينة في نفس كلّ مَن يعاشره. وما أحرق قلبي بشدّة هو الخبر الذي أتاني كالصاعقة، وهو قتله بطريقة تسلب الطمأنينة من النفوس وتُبيّن إجرام الأمويّين، فليتني عرفتُ كيف كان شعوره وهو ينتظر أن يُرمى من أعلى السطح ليقطعوا بعدها رأسه، وليتني كنتُ معه، لكن قدّر الله وما شاء فعل، وله الحمد أن ربط على قلبي برحمته بعد تلك الحادثة، وألهمني الصبر الذي واصلتُ به مهمّتي العظيمة في الحفاظ على ثمرتيْ مسلم المتبقّيتينِ، والعناية بهما. لكن بعد مدّة يسيرة وفي يوم عاشوراء تفرّق الشمل من جديد، وضاع منّي طفلاي هائمينِ في الصحراء الواسعة. وبدأت محاولاتهما العديدة للنجاة من ضياعهما، وطلبا المساعدة من أناس كثيرين، فبعضهم كان عونًا لهما، بل وجدوا في مساعدتهما وسيلةً للقرب إلى الله تعالى، ونبيّه، وأهل بيته ( صلوات الله عليهم)، والبعض الآخر كان يراهما غنيمة حرب وجائزة، يتقرّبون بهما إلى أميرهم ابن زياد ـ لعنه الله ـ فأحضروا إليه رأسيهما المقطوعين ببشاعة وقسوة من دون اكتراث لبراءتهما، وصِغر سنّهما، وبدون خوف قاتلهما من سؤال الله (عزّ وجلّ)، ونبيّه، وعترته الطاهرة (صلوات الله عليهم أجمعين) يوم القيامة عن حقّهما، وعن ذنبهما!