أُمّ أَخيها
"ما رأيتُ إلّا جميلًا"(1).. بهذه العبارة التي دوّت في وديان التاريخ وآفاقه، وحملت كلّ جمال الكون في طيّاتها المكنونة، نطقت عظيمة بني هاشم وعابدتهم وعقيلتهم؛ لتعكس ذاك الصفاء والعمق والجمال الروحي الذي عبق به كيانها المقدّس. بلى، إنّ ذاك الكيان مقدّس، وكيف لا يكون وهي في الميلاد بنت خير البشر، وفي الحياة سيّدة بني هاشم وقريش والعرب والعجم، بنتٌ أمّها سيّدة نساء العالمين، وأبوها سيّد الوصيين، وجدّها خاتم النبيين، وأخوها السبط الأكبر، وزوجة عبد الله بن جعفر الطيّار بحر الجود، وأمّ شهيدين من شهداء كربلاء، هما عون وجعفر، وشقيقة روح سيّد الشهداء ورفيقة دربه، وخليفته في أهله، والأمينة على العائلة النبوّية الشريفة في أحلك لحظة مرّت بها البشرية، ألا وهي لحظة قتل سبط رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وسبي نسائه وأطفاله، بل هي فوق هذا كلّه، الأمينة على الإمامة، إذ فدت البقيّة الباقية من أهل بيت النبوّة بنفسها، وكانت حامية لإمام زمانها زين العباد (عليه السلام) بعدما كانت سندًا لأبيه وقت الشدائد والصعاب، أفلا تكون بعد هذا كلّه مقدّسة الكيان، وهي الفريدة في جنس بني الإنسان؟! لعلّ شمس المدينة لم تشرق على مولودة قطّ بالوهج والبريق نفسه الذي أشرقت به على زين الأب والأمّ والجدّ، زين النساء (زينب)، ولعلّ بسمة البيت العلوي الفاطمي المحمّدي لم تتألّق قطّ بمثل ذاك البهاء، فهنا بين كنفات البيت المشعشع بساكنيه سادة أهل الجنّة، أمًّا وأبًا وأخوين، تهلّلت الملائكة صاعدةً هابطةً؛ لتزفّ ذاك الخبر البهيج إلى قلب خاتم الأنبياء؛ لقد وُلدت تلك الطفلة المباركة، المرصودة لأشرف مهمّة قامت بها امرأة على وجه الأرض، مَهمّة حفظ الإمامة، والكشف عن مكائد الشيطان لطمس حقيقة الإيمان، فلولا زينب (عليها السلام) لم يعرف العالم ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا حقيقة ما جرى في كربلاء.. والولادة بداية الحياة، لكنّها في مقاييس أهل الجنّة بذرةٌ استنبتتها يد القدرة الإلهية لتؤدّي دورها في الحياة، فمع أول شهقة نفس يتردّد على شفتي المولودة السعيدة، تُولد كلّ الأنفاس التالية التي تسبّح بحمد الله وتمجّده، وتنطق بطاعة الله وتوحّده، ثم تفرغ عن لسان أبيها مظلومية أمّها وأخيها، وتسدّد إلى قلب عدوّ الإنسانية والدين كلّ سهام الحقّ السليب، فتعلن للكون شهادتها التي لا تقبل الردّ على أبشع جريمة بحقّ الخير متجسّدًا في إنسان، ارتكبها الشرّ متجسّدًا في إنسان.. ها هي تلك الطفلة النبوّية النجيبة تنظر في عيني أبيها لتردّد قوله: "قولي واحد، فهتفت بلسانها الطليق: "واحد"، ثم يزيدها متبسّمًا بحنانه الأبويّ اللامحدود: بنيّة زينب قولي اثنان، فتضيع عيناها الواسعتان المُلهَمَتان في وجهه النورانيّ وهي تقول: أبتاه، أستحي أن أقول اثنان بلسان قلتُ به واحد!"(2)، أيّ درس عملي بليغ من دروس الإيمان الفطري يلقّنه الأمير لابنته الأميرة، فتستوعبه بلمح البصر والفكر، فهي العالمة غير المعلَّمة، والفهمة غير المفهَّمة، وهي مَن ستقف بعد استشهاد إخوتها وأولادها وبني أهلها لتخطب في كوفة الغدر ومجلس طاغيتها، وديوان طاغية الشام، فتهدّ عروش البغي بكلماتها التي تعلن انتصار الدم على السيف، موغلةً في أعماق النفوس الوغِرة بسيفها الخالد، الذي لا يقلّ رهافةً وحدًّا عن سيف أبيها (ذي الفقار)، بل هو منه وإليه، مثلما قالت: "...فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تميتُ وحينا، ولا تدرك أمدنا..."(3)، ها هي أمّ أخويها ترث أمّ أبيها بكلّ صفائها وطهارتها وكمالها وعصمتها، وبكلّ بلواها ومظلوميّتها أيضًا، فتشهد كسر الضلع وإسقاط الجنين، وغصب الحقّ الناصع المبين، وضربة الغدر لمولى المتّقين، وسمّ السبط الأكبر، والبلاء الأعظم الأعسر في دنيا البشر استشهاد العصبة المؤمنة بأرض الطفّ، وسيّدهم وإمامهم المحامي عن الدين، وسبي بنات الرسالة على يد الظالمين المنافقين، فهل فوق ما شهدته عقيلة الطالبيين من بلاء؟ وهل هناك من هي أجدر منها بأن تكون جبلًا للصبر المكين، وأمًّا لأخيها سيّد الشهداء؟ فسلامٌ، ثمّ سلامٌ، ثم سلامٌ، حتى ينقطع النفس وينتهي الكلام على أمّ أخيها، مَن أحيت دين جدّها وأبيها بالحقّ المبين المتجسّد فيها. ........................................... (1) بحار الأنوار: ج45، ص116. (2) شجرة طوبى: ج2، ص392. (3) المصدر السابق: ج45، ص135.