في الصيف على الرصيف

فاطمة رحيم المعيوفي/النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 164

هل تنطق صوركم؟ بل هل بها من روح؟ إذا كان من غير المنطقي حديث الصور أو تحرّكها، فما بال أهاليكم يتحدّثون إليها، ثم يبتسمون ويبكون؟ من الحديث مع رسوم وجوهكم ماذا يحصدون؟ فسلامًا على قلوبهم الصامدة التي عانقت فراق أرواحكم، ومع ثقل الهموم في صدورهم، إلّا أنّهم واقفون أمامكم بقوة، يحتضنون صوركم كأنّكم أحياء الجسد وهم على قدر من الإدراك، فهل تسكن أرواحكم الصور فبها يستأنسون؟ أم هي غريزة القرابة والدم، تأسرهم وتجري بهم حيث تلك المعلّقات الغاليات. في بلدي نعلّق صور الذين جادوا بأرواحهم لحماية كلّ ما هو مقدّس وثمين على أعمدة مثبّتة وسط شوارع المدينة، صورًا طُبعت على القماش، يستلطفها الناس وذوو الفقيد بخاصّة، ويتردّدون في المجيء بين الحين والآخر لرؤيتها، ويحدث أن نجد في أحد شوارع المدينة شيخًا كبيرًا أو امرأة طاعنة في السنّ تقف أمام إحدى تلك الصور الشامخة، تحادثها وتبكيها وتتمتم ببعض الكلمات التي تختلج في قلبها، ثم تذهب تاركةً شيئًا من الحزن لقسوة البُعد والانقطاع عن روح فقيدها. ويحدث أيضًا أن نرى في إحدى الطرقات أطفالًا صغارًا يقفون من دون الاحتماء بشيء من لهيب الشمس وهم يبيعون الماء أو العلكة، ولربّما نصادف طفلًا بيديه الصغيرتين يسند أحد تلك الأعمدة التي تحمل صورة شهيد تكاد أن تقع بفعل الرياح، وهو يطيل النظر في تلك الصورة، يتقاسم معها قنينة المياه فيشرب نصفها ويرشّ النصف الآخر عليها، وقد نجده يحمل بعضًا من ملامح تلك الشخصية الواقفة بشموخ على عامود ضعيف، وإن كان الازدحام في الشارع شديدًا جعلكَ تنظر إليه عن كثب علّكَ تميّز مَن منهم انهكته الشمس وتركت أثر حرارتها في وجهه، ولو أمعنّا النظر لشعرنا بنسبة القربى بينهما، فنقترب أكثر لنقرأ ما تكتب أعين الفقيد عن طفله الذي يبحث عن الأمان بالقرب من صورته، حتى لا ننسى أنّنا مدينون لهم بأنفاسنا الحرّة وحياتنا بفضل دمائهم، وأنّ أفضل جزاء الإحسان هو جعل فلذّات أكبادهم نصب أعيننا، فشعور الخجل لا يفارقني متى مررتُ بتلك الصور. أخشى أن تكون شمس بلادي حارقة لتلك الصور المطبوعة، فتبهت ملامحهم قبل رحيل أحبّتهم عن الحياة أو حتى قبل أن تنضج أرواحهم الصغيرة التي خلّفوها وراءهم لتعيد بناء تراثهم في تأريخ الأوطان والشعوب، ينبغي أن تُعلّق تلك الصور الغالية على بناء يعانق السماء، فصورهم تترك انطباعًا من خليط المشاعر في قلوب أحبّتهم، وإن كنتُ أرجو أن تبقى سلوتهم حتى نهاية العمر.