غربة القاسم (عليه السلام)

د.إسراء محمّد العكراويّ/ النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 152

تخيّلي أنّ الدنيا تداهمكِ بجيش صروفها فتنتزعكِ عنوةً أو طواعية من بين أهلكِ ودياركِ إلى بلد بعيد لم تختاريه، وقوم لا يعرفون مَن أنتِ ومَن أهلكِ، ويجهلون أصلكِ وجذوركِ، وماضيكِ بخيره وشرّه، ففي ذلك امتحان عسير على المرء، فبين شعور الغربة الذي يتملّك الإنسان ليملأه بالوحشة والكآبة من فراق الأهل والوطن، وبين شعور التحرّر الذي يخلّفه التجرّد من بعض القيود ليتيح له أن يبدأ من جديد، ويكون ما يشاء من دون الاتّكاء على شرف ماضٍ، ولا تثقل كاهله جريرة ما ليخشاها، فأيّ بلد ستختارين؟ وأيّ رفقة؟ ومَن ستكونين بعد غياب اسمكِ في مجاهيل الغربة؟ لقد عصفت الدنيا بآل محمّد (صلّى الله عليهم أجمعين)، ومزّقت شملهم في البلدان، فكانت جريرة الهاشمي أنّه هاشمي، وجريرة العلوي أنّه علوي، وتلك جريرة كبيرة في قاموس الحاقدين تبيح الدم، وتزهق الأرواح، فلم يكن بيد القاسم ابن الإمام الكاظم (عليه السلام) إلّا أن يختار الغربة، طلبًا للنجاة من بطش السلطة الظالمة، فكيف اختار غربته، وعلى وَفق أيّ معيار؟ لقد أخذ القاسم (عليه السلام) جانب الشرق لعلمه بوجود قبر جدّه أمير المؤمنين (سلام الله عليه)، فكانت نيّته اللجوء إلى هذا الحرم الآمن جاره وإن كان قريبًا من عاصمة السلطة في بغداد، ثم إنّه لمّا لقي بنتين تلعبان في التراب، وسمع إحداهما تقول للأخرى: (لا وحقّ الأمير صاحب بيعة يوم الغدير ما كان الأمر كذا وكذا)، وتعتذر من الأخرى، فقال لها: (مَن تعنين بهذا الكلام؟ قالت: أعني الضارب بالسيفينِ، والطاعن بالرمحينِ، أبا الحسن والحسين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال لها: يا بنيّة، هل لكِ أن ترشديني إلى رئيس هذا الحيّ؟...)(1)، وهنا اختار القاسم (عليه السلام) الصحبة والموطن عند مَن يعرفون حقّ الولاية لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في ذلك الزمن الذي ندر فيه مَن يظهر الحقّ، وعلم أنّ هؤلاء القوم ليسوا من مُوالي السلطة التي فرّ من دياره هاربًا منها، ومع علمه بحقيقة مُضيفه الذي يصون حُرمة أبناء الأنبياء (عليهم السلام)، إلّا أنّه لم يستغلّ هذه الخصلة ليعلن عن هويّته، بل آثر أن يعيش مجهولًا بين الناس، يأكل من كدّ يمينه، ولا يجلب الأذى لمضيفه بالتعريف عن نفسه، ولأنّه كان مع الله في غربته، أبدله الله بأهله أهلًا، وبوطنه مأمنًا، وجعل قبره روضة تأنس فيها نفوس المؤمنين، مثلما تأنس في روضة أخيه أنيس النفوس الإمام الرضا (عليه السلام)، وعرّفه للناس فصار مقصدًا للعاشقين حتى قيام يوم الدين. ................................ (1) شجرة طوبى: ج1، ص171.